مثل الخطط الاستراتيجية أحد أبرز مُمكِّنات الدولة نحو تحقيق مسارات التنمية المستدامة؛ ويعتبر صُنَّاع هذه المسارات أحد أهم الأضلع الرئيسية لتحقيق الأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكما درسنا في التخطيط الاستراتيجي أن لكل هدف وغاية مُدخلات تُساهم في تحقيق النتائج المرجوَّة أو التغذية الراجعة لمعالجة التحديات أو الإخفاقات، وقد شكلت رؤية عمان (2020) أحد أبرز الطموحات التي عوَّلت عليها الدولة ومختلف قطاعتها لتحقيق المستوى الآمن لحياة الناس وانتعاش الاقتصاد، واختصارا لأهدافها فقد سعت إلى تنمية الموارد البشرية الوطنية وتعزيز قدراتها ومهاراتها، وخلق بيئة حاضنة للقطاع الخاص لتمكين الكوادر الوطنية العمانية في الإبداع والقيادة، وتعزيز دور القطاع الخاص في صناعة القرارات الوطنية مع الحكومة، وتحقيق التنويع الاقتصادي عوضا عن النفط والغاز، وتعزيز مستوى معيشة المواطن وتذويب الفوارق الاقتصادية والفئوية بين أطياف أفراد المجتمع، إلا أن الغريب في الأمر أمام كل ما قدَّمته مؤسسات الدولة لتحقيق هذه الأهداف بأي طريقة كانت لم يصدر تقرير أو بيان أو توضيح رسمي يُظهر مدى نجاح وتحقق هذه الرؤية أو (إخفاقها)، لكننا سنسلِّط الضوء على قراءة مؤشراتها ونتائجها من خلال دراسة نشرها الباحث سعيد بن محمد الصقري والذي تشرَّف بالثقة السَّامية ليكون منذ أغسطس (2020) وزيرا للاقتصاد بناء على المرسوم السلطاني رقم (111/2020) وبمعيته في الدراسة الباحثة آن بنت سعيد الكندية وهي مستشارة في الشؤون الاستراتيجية وقد نُشرت دراستهما في مركز الخليج لسياسات التنمية بعنوان "رؤية عمان 2020 بين الواقع والمأمول" ونختصر نتائجها في الآتي:
مع د. سُلطان الخروصي
الأربعاء، 28 ديسمبر 2022
رؤية عمان 2040 وحكاية وطن
الأربعاء، 13 أبريل 2022
المواطنة السياسية في المناهج العُمانية: بين مطرقة الطموح وسندان المعايير(2)
…نستكمل سلسلة مقالاتنا في تِبيان واقع القيم السياسية في حقلنا التربوي العُماني، واستطرادا لفهم معايير سياسة التأليف وأسسه، وبناء المناهج الوطنية وتحليل المنطلقات والركائز القويمة التي بُني عليها المحتوى الدراسي مع ديناميكية الواقع العالمي، وتقارب الشعوب وقيمها فيما يُعرف بالمواطنة العالمية، لنتعرف بوضوح على موقعنا العُماني في الخارطة العالمية، وقد نوّهنا في مقالنا السابق عن أننا سنغور في تفسير وتحليل أحدث دراسة عُمانية بحثت في واقع تلك القيم في المحتوى الدراسي، والتي اعتمدت على تحليل مناهج الدراسات الاجتماعية لمرحلة التعليم ما بعد الأساسي، كنموذج أقرب لهذه القيم عن نظيراتها في المناهج الأخرى، وباعتبار أهمية هذه الفئة العمرية في فهم التيارات الفكرية والآيدولوجية المحيطة، وقد حازت هذه الدراسة على فرصة الترشَّح لجائزة الكلية كونها أفضل بحث صريح وجريء للعام الأكاديمي 2022م.
سعت الدراسة إلى الكشف عن ماهية القيم السياسية المضمَّنة في المناهج الحالية، والتي كشفت نتائجها عن أن أغلب الموضوعات السياسية ركَّزت على التاريخ السياسي العُماني، والأحداث التي شهدها العالم خلال العقود الماضية، وكفاح الإنسان عبر تعاقب التاريخ لتحقيق الحياة الكريمة، وحقن الدماء، والدفاع عن الأوطان، وهي موضوعات هامة وضرورية لدى النشء؛ نظرا لما أفرزته الأحداث الإنسانية عبر التاريخ من خطورة الصراعات الداخلية والخارجية على المواطنين والوطن، وقد يكون تشبَّع المحتوى بهذه الموضوعات نابع من رأي مؤلفي المنهج الدراسي في التركيز على ما جاء في النظام الأساسي للدولة، وانطلاقا من القوانين والتشريعات التي سُنَّت لحفظ الأمن والأمان، وتحقيق الاستقرار السياسي، والمحافظة على التلاحم المجتمعي، إلى جانب الاهتمام بمبادئ فلسفة التربية العمانية في خلق جيل واعٍ بما حوله، قادر على توظيف الطرق السلمية والحضارية في المطالبة بحقوقه، والقيام بمسؤولياته على أكمل وجه.
ولو تعمقنا في تفاصيل القيم السياسية التي تطرقت لها الدراسة نلاحظ أن قيمة “الاعتزاز بالوطن” جاءت الأكثر تكرارا وبنسبة (17.3%)؛ نظرا لكثرة الموضوعات المتصلة بالإرث التاريخي والحضاري العُماني، والعربي والعالمي الكبير لاستيعاب طبيعة الصراع العسكري والتجاري بين الحضارات القديمة للسيطرة على مضيق هرمز، وباب المندب، والدور البطولي للإمبراطورية العمانية في الحفاظ على استقرار المنطقة، ودور العمانيين في آسيا وجنوب شرق إفريقيا، وسعيهم نحو تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتمكُّنهم من تطهير سواحل بحر العرب والمحيط الهندي من القراصنة، وتأمين طُرق الملاحة التجارية، والانسجام والتداخل مع شعوب آسيا وجنوب شرق إفريقيا.
من جهة أخرى، فقد أظهرت النتائج أن أقل قيمة سياسية تضمنها المحتوى جاءت حول “المشاركة في مجلس الشورى” بمتوسط لم يتجاوز (1.3%)؛ لندرة الموضوعات ذات الصلة بمفهوم الشورى على الرغم من أهميتها في حياة الناس كمبدأ ديمقراطي إسلامي وإنساني رفيع، واعتبارها مسارا جوهريا للتكامل والمشاركة بين المواطنين والدولة في صناعة القرارات السياسية والاجتماعية والتنموية، إذ اقتصرت المناهج الحالية في التعريف العام بالسلطات الثلاثة القائمة (التشريعية، والقضائية، والرقابية) بينما خلت من أي موضوعات ذات صلة بهذه القيمة إلا في فقرة موجزة جدا ضمن موضوع “الجهاز الإداري للدولة ومكوناتها”.
تمثِّل قيمة الشورى أحد أهم مظاهر الديمقراطية للدولة الحديثة؛ فهي بوصلة الأمان للوطن والمواطنين في وضع الإطار العام لطبيعة العلاقة بينهما، وتعزيزها في المناهج الدراسية يُسهم في خلق جيل واع بماهيتها، وأهميتها، وآليات ممارستها، وهي تُمثِّل النضج الفكري والقانوني للمتعلم؛ لتدعيم الشراكة المجتمعية في التصويت وانتخاب من يراه مناسبا لخدمة الوطن والمواطنين تحت قبة مجلس الشورى، وقد يكون ضعف تضمين موضوعات الشورى في المحتوى الدراسي نابع من وجهة نظر مؤلفي المنهج الحالي بأن تجربة الشورى في السلطنة لا تزال في طور التأسيس والبناء، وتمرُّ بمراحل تطويرية بنائية مستمرة، إذ لم تبدأ بصورتها الحقيقية إلا في العام (1991)، وأن النظام الأساسي للدولة منذ صدوره بالمرسوم السلطاني رقم (101/1996) لم يعزِّز من قوة مجلس الشورى كمؤسسة برلمانية مستقلة لها قوتها على الحكومة، وإنما اقتصر دورها المعنوي في الجوانب الاستشارية، والتدارس ورفع التوصيات غير الملزمة على الحكومة، وبحث القوانين المحالة له من مجلس الوزراء، وإمكانية اقتراح مشاريع القوانين أو تعديلها، وحتى بعد صدور النظام الأساسي الجديد بالمرسوم السلطاني رقم (6/2021) ظلت نفس المواد القانونية مع إفراد قانون جديد باسم “قانون مجلس عُمان” الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/2021)، الذي ضمَّ تفاصيل غرفتي المجلس، وهما مجلس الشورى (المنتخب أعضاؤه من المواطنين)، ومجلس الدولة (المعيَّن أعضاؤه من السُلطان)، إلا أن القانون الجديد لم يُعزِّز الأدوات البرلمانية لمجلس الشورى كلجنة تقصِّي الحقائق، والاعتراض على قرارات الحكومة، والاستجواب، وسحب الثقة عن الحكومة وغيرها.
إن الحِراك الشعبي الذي شهدته سلطنة عُمان في السنوات المنصرمة، والذي طالب بالعدالة الاجتماعية، والإصلاح التربوي للمناهج، وتحسين ظروف الحياة الكريمة، وإعطاء مجلس الشورى الصلاحيات الرقابية الحقيقية للمطالبة بحقوق المواطنين والوطن، يُعطينا مؤشرا هاما بأن المواطن أصبح أكثر وعيا وانفتاحا بما يدور حوله، ويتأثر بالمتغيرات المحيطة من خلال فضاءات الإنترنت، ووسائل الإعلام المختلفة، ومدرك لقيمة الشورى المفترضة، وأهمية البرلمان كممثل له أمام السُلطان والحكومة والعالم؛ مما يتطلب على مؤلفي المناهج الوطنية والمعنيين غرس قيم المواطنة السياسية، وإعادة النظر في محتواها الحالي وفق معايير قويمة تمكِّننا من خلق مواطن مُؤهَّل في وضع صوته بمسؤولية لمن يُمثِّله نحو تحقيق طموحات وآمال وطنه والمواطنين.
المواطنة السياسية في المناهج العُمانية: بين مطرقة الطموح وسندان المعايير
استكمالا لمقالنا السابق الذي حاولنا من خلاله تأطير المسار الفلسفي والتاريخي لقيم المواطنة السياسية عبر الحقب الإنسانية المتواترة، نستطرد القول في أن غرسها وتعزيزها لدى النشء يُعدُّ مسؤولية وطنية تتطلب تضافر الجهود الرسمية والأهلية، وتوفير البيئة الحاضنة لاكتسابها واستيعابها وفهم مفرداتها وآليات ممارستها في الحياة اليومية للمواطنين، ويمثل الحقل التربوي أحد أبرز المسارات العملياتية لتحقيق هذه الغاية الرفيعة عبر مختلف مكونات البُنية التعليمية من إدارات المدارس والمعلمين، والمناهج الدراسية، والأنشطة المدرسية وغيرها. وتعدُّ مناهج العلوم الإنسانية الحاضن الأكبر لتلك القيم؛ حيث يعوَّلُ عليها القيام بدورٍ مهم وفاعل لتدعيمها نظرا لخصوصيتها وطبيعة موضوعاتها.
ولو أسقطنا ما تقدم على واقعنا العماني التربوي، نجد أنه وعلى الرغم ما أولته وزارة التربية والتعليم من اهتمام نحو غرس تلك القيم لدى النشء بتطعيم المناهج الدراسية عموما ومناهج الدراسات الاجتماعية على وجه الخصوص بموضوعات مستقلة تتصل بقيم المواطنة السياسية، وتشكيل لجنة متخصصة لدراسة واقع المناهج وموضوعاتها ودورها في تعزيز تلك القيم بعد أحداث العام (2010) والمطالبة بتحسين الواقع التربوي في السلطنة، فإن مؤشرات خطيرة ظهرت على الساحة الوطنية تجسَّدت في تجدد تلك الأحداث في العام (2011)، وتجددت معها المطالبات بتغيير المناهج الدراسية، وتضمين موضوعات ذات صلة بالقضايا الإنسانية والإسلامية والعالمية بمصداقية، والمطالبة بالتعددية السياسية، ومكافحة الفساد، وتخفيف القيود الرقابية المفروضة على الصحافة والرأي.
لقد أوحت الممارسات والسلوكيات التي صاحبت تلك الأحداث بوجود خللٍ في تلك المناهج والتساؤل عن المعايير التي بُني عليها الفلسفة الأدبية والأهداف الاستراتيجية ووضوح السياسة التربوية النافذة أو ضبابيتها؛ كونها لم تتمكن من إشباع حاجة الأجيال العُمانية في فهم الحقوق، وكيفية المطالبة بها، وما يترتب عليهم من واجبات تجاه الدولة والمجتمع؛ وهذا ما يدعو إلى مراجعة هذه المناهج وتحليلها من أجل تقويمها، حتى يُتَمكَّن من معرفة أسباب الخلل القائم؛ سعياً وراء الوصول إلى بناء مناهج متكاملة تحقق آمال الأجيال، وتسدُّ حاجة المجتمع لمواطنين مُلتزمين وواعين بواجباتهم وحقوقهم في المجتمع الحديث، ومما يُعزِّزُ هذا الطرح (إعادة النظر إلى مراجعة قيم المواطنة السياسية في المناهج) ما نوَّهت إليه جُملة من الدراسات التربوية بأن شعور الطلبة نحو محتواها، وطرق تدريس المعلمين لها كان سلبيَّاً؛ لإحساسهم بجمودها، وعدم ارتباطها بالواقع الذي يعيشون فيه، وضعف مصداقية موضوعاتها، وعدم تمكّن معلميهم من التطرق إلى الموضوعات السياسية، والاجتماعية الجدلية أو تخوّفهم في التطرق إلى ذلك كدراسات (Selaibeekh, 2017؛ Khaled, 2013؛ Ciftcl, 2013؛Russell& Waters, 2010)، أضف إلى ذلك فإن تقصِّي الباحث للمنظومة البحثية التربوية في السلطنة حول هذا الموضوع أظهرت ندرة في البحث والنوعي لها، فلم يجد إلا دراستين أجريتا قبل عقدين ونيف من الزمن إحداهما للدكتور سيف المعمري في العام (2002)؛ والأخرى للباحث عامر العيسري في (2001) واللتان بحثتا في مستوى توافر تلك القيم في مناهج التربية الوطنية (التي أُلغيت بعد ذلك)، وقد كشفتا عن مستوى توافر ضعيف وغير متوازن للقيم السياسية في محتوى تلك المناهج.
وعلى ضوء ما تقدم؛ فإننا بحاجة ماسة لاستقراء واقع درجة تضمين القيم السياسية في مناهجنا الوطنية الحالية، ودورها في تعزيز مفهوم المسؤولية الوطنية، وخلق مسارات الوعي السياسي الآمن في ظل التقلبات المحيطة بهم، وإدراك ماهية الحقوق والواجبات وهما طرفا معادلة الأمن والأمان بين الناس والدولة في كل حقب التاريخ الإنساني؛ حيث سنعمل في مقالنا القادم استقراء نتائج دراسة دكتوراه حديثة وتحليلها صدرت عن الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا في هذا العام (2022) وقد حصلت على أفضل بحث صريح وجريء على مستوى الكلية، سنتحقق من خلالها عن مدى توافر القيم السياسية في مناهج الدراسات الاجتماعية (كنموذج)، وهي أقرب المناهج الدراسية للقيم السياسية عن نظيرتها من المناهج الإنسانية، ومن خلالها يمكننا إسقاطها على تفسير السلوكيات التي حصلت في الفترة المنصرمة وتجددها بين الفينة والأخرى؛ لنقف على المربع السليم عن درجة الوعي السياسي للشباب العُماني، وطرح التحديات التربوية والحلول والمقترحات التي يمكن أن يستفيد منها صُنَّاع القرار في بناء المناهج الوطنية الآمنة في ظل الحِراك الراديكالي العالمي المتلاحق
المواطنة السياسية: طموحٌ تربويٌّ وخشيةٌ سياسيّة
تُعدُّ المواطنة السياسية والتربية عليها من أصعب المهمَّات وأعسرها التي واجهت الأمم قديماً وحديثاً؛ نظراً لصعوبة تحديد مفهومها الدقيق من جهة، ولآلية ممارستها على الواقع من جهة أخرى؛ فالمواطن الصالح يكشف الوضع الحقيقي لأيّ أمّة وحضارة، وقدرتها على صمود مشروعها الحضاري، وقوة قيَمها وفلسفتها اجتماعياً وتربوياً وسياسياً؛ لذا أولتِ الْحضارات القديمة السابقة اهتماماً كبيراً بهذا المجال، فاهتمّ الفراعنة بنشر قيَم الطاعة، والولاء، والإخلاص للملك والوطن، ونادى فلاسفة الإغريق ومفكروهم بنشر القيَم الفاضلة بين المواطنين؛ ليُمايزوا بين الخير والشر، والحقّ والباطل، وتهيئة مواطنين نافعين مخلصين لأثينا التي كانت ترمز للحرية والعدالة، فنجد أن أعظم فلاسفتها “أرسطو” يرى أن المواطنين هم أساس نجاح أمن نسيج الدولة الاجتماعي واستقراره وتلاحمه، والسياسي، ونموّها الاقتصادي؛ مما يستوجب على النظام الحاكم تحقيق العدل، والمساواة، وإشراكهم في الحياة السياسية، والتشريعية، والاجتماعية، والاقتصادية.
واستندت الفلسفة السياسية للحضارة الرومانية على الحماية الشخصية للمواطنين، والحفاظ على ممتلكاتهم وحقوقهم القانونية، وتجنيبهم المحاكم التعسفيَّة، والتعذيب، والإهانة، والعنف الديني والسياسي، وسَعت الحضارة الصينية القديمة إلى تعليم أفرادها القيَم الفاضلة النبيلة؛ للدفاع عن كرامة الأمّة الصينية وحماية الحقوق الشخصية.
لم يستمرّ هذا البناء التراتبي لمفهوم المواطَنة السياسية وقيمها وممارساتها في أثينا ولاحقاً في روما طويلاً؛ حيث فقدَ المواطنون حقوقهم، وكُلِّفوا بالواجبات والالتزامات والضرائب تجاه الدولة، لتشهد أوروبا حتى نهايات القرن السابع عشر انحساراً كبيراً في قيمة المواطن وحقوقه، واضمحلال الديمقراطية، وانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية؛ الشيء الذي خلق غضباً شعبياً وسُخطاً كبيرين بين الشعوب، وكانت نتيجة تراكم احتقان الطبقة الكادحة وغضبها من العُمَّال والفلاَّحين والفقراء والطبقات المتوسطة وما دونها تجاه الأرستقراطيين والبرجوازيين والنُبلاء، والذي خلق حِراكاً مجتمعياً تمثَّل في الثورات الشعبية والاعتصامات والمظاهرات، التي دفعت الطبقة السياسية إلى التفكير في منح القيمة الحقيقية للمواطنة، وخلق التوازن بين الحقوق والواجبات.
إن لمعرفة قيم المواطنة السياسية وممارستها أهمية كبيرة على مستوى الفرد والجماعة؛ فذلك يدفع الفرد للتعامل مع الآخرين وفق نسق ونظام قِيَمِيّ يكون بمثابة الموجِّه لسلوكه، ونشاطه، وتصرفاته، وانفعالاته، كما أن أيَّ تشكيل مجتمعي هو بحاجة لنسق قِيَمِيّ، تتضح من خلاله أهدافهم ومُثلهم العُليا، لتحفظ حياتهم الكريمة، وتُحدِّد أنشطتهم، وطبيعة علاقاتهم الإنسانية.
ومن أولويات التربية وأهدافها الرئيسة هو غرس تلك القيم وتعزيزها في نفوس المتعلمين عبر المنظومة التعليمية. وتشكل المناهج الدراسية أحد الأعمدة الرئيسة في المنظومة التعليمية؛ حيث تسهم بصورة كبيرة في غرس تلك القيم وتعزيزها عند الطلبة، فاهتمت العديد من دول العالم بإعادة هندسة المناهج وتصميمها بما يتوافق واكتساب متعلميها؛ حيث عملت المملكة المتحدة منذ العام (1998) على تعزيز تضمين محتوى المناهج الدراسية بشكل عام، ومناهج الدراسات الاجتماعية والتربية الوطنية بشكل خاص بموضوعات تتصل بالمواطنة السياسية، وعدّت الحكومة المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية أن قيم المواطنة السياسية هدف قومي سامٍ، فوضعت استراتيجية وطنية لآليات إكسابها عند المتعلمين، وسعت الحكومة الكندية إلى وضع استراتيجية وطنية تُعزَّز من مفردات المواطنة السياسية ومفاهيمها وقيمها، وتغيير مفهومها النمطي المحصور بين القوانين والدستور إلى المشاركة المجتمعية والممارسة السياسية في خدمة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، ووجَّهت الحكومة السويسرية المؤسسات التربوية والتعليمية إلى الاهتمام بتربية المواطنة السياسية في المرحلة الثانوية وتعزيز قيم التسامح، والاحترام، ونبذ العنف والتشدد، واستيعاب مبادئ الديمقراطية، والحرية، والمسؤولية العالمية، والعمل التطوعي، والتعاون مع المنظَّمات الوطنية والعالمية، كما أنه وبعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) توجَّهت الحكومة اليابانية إلى تحويل الفكر السياسي والمدني لدى مواطنيها من النزعة العسكرية إلى النزعة المدنيَّة الديمقراطية والإنتاج، فأعادت هيكلة فلسفتها التربوية وتصميمها وأهدافها لخلق مسارات التواصل السليم مع المجتمع الدولي، وتعزيز حبّ العمل، والإنتاج، والجودة، والإخلاص في سبيل رفع مكانة الأمة، وخلق ثقافة مكافحة الفساد وتعزيز قيم النزاهة والمسؤولية
.
وعلى الرغم من أن العديد من الدراسات العلمية البحثية تُشير إلى أهمية الدور التربوي الذي يمكن أن تحققه المناهج الدراسية بشكل عام في غرس قيم المواطنة السياسية وتعزيزها عند المتعلمين فإن أغلبها تؤكد على أن مناهج الدراسات الاجتماعية هي الأنسب لتحمُّل هذه المسؤولية؛ لما تتميز به عن نظيراتها في القدرة على احتواء أغلب تلك القيم وترجمتها واقعاً وممارسةً.
فمناهج التاريخ تغرس في نفوس الطلبة الاعتزاز والفخر بالإنجازات الحضارية التي قدَّمها السابقون في سبيل الدفاع عن الأمة، ومقدَّسات الوطن، وكرامته، والسعي نحو الحياة الكريمة، وتُساعد مناهج الجغرافيا على استيعاب خصائص الوطن، وما يحتويه من إمكانيات طبيعية وديموغرافية، وتَتَبُّعٍ لمسيرة حياة الإنسان فيه منذ القِدم، وعلاقته المتبادلة مع البيئة، والمشاكل التي تعاني منها للسعي في إيجاد الحلول.
لقد أوصت العديد من المؤتمرات، والندوات، والملتقيات العلمية بانتقاء القيم السياسية المراد تضمينها في محتوى مناهج الدراسات الاجتماعية، واختيارها بعناية ودقّة لتُبرِزها بصورة صحيحة ومنطقية تساعد الطلبة على استيعابها وتعلُّمها وممارستها؛ فيتربَّون على الفضيلة ويمقتون الرذيلة، ويتوافقون مع فلسفة مجتمعهم وقيمه المنبثقة من ثقافة السلام، والمحبة، والبناء، واحترام القانون، والدفاع عن الوطن، والاعتزاز بالمنجزات الوطنية، وتهيئة المواطن الصالح؛ حيث أصبحت الحاجة ماسّة لتكثيف البحوث المتصلة بقيم المواطنة السياسية في مناهج الدراسات الاجتماعية وفحصها وتحليلها ومعرفة مدى وعي المعلمين بها وممارستهم لها أمام ما نشهده من إفرازات العولمة؛ للوقوف على واقع مستوى تضمينها وانسجامها كمَّاً وكيفاً مع ثوابت الأمة في ظل المتغيرات الوطنية والعالمية، وقياس مدى قدرتها على القيام برسالتها المنوطة بها، وعلى رأسها بناء المواطن الصالح المسؤول، وتتمثل آلية التأكد والتحقق من ذلك من خلال تحليل محتوى المنهج الدراسي للكشف عن الموضوعات ذات الصلة، ورصد آثارها وتبعاتها، ومحاولة السعي لتصحيح المسار إن تبين ثمة نقص أو قصور في أحد أركان العملية التربوية.
وبناءً على ما تقدم من سرد تفصيلي لتأصيل هذه السلسلة من المقالات المتخصصة في علوم المواطنة؛ فإننا بحاجة إلى إسقاط ما تقدم على واقعنا العُماني لنستقرئ تلك المؤشرات العلمية في مقالات قادمة بعون الله