الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

رؤية عمان 2040 وحكاية وطن

 مثل الخطط الاستراتيجية أحد أبرز مُمكِّنات الدولة نحو تحقيق مسارات التنمية المستدامة؛ ويعتبر صُنَّاع هذه المسارات أحد أهم الأضلع الرئيسية لتحقيق الأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكما درسنا في التخطيط الاستراتيجي أن لكل هدف وغاية مُدخلات تُساهم في تحقيق النتائج المرجوَّة أو التغذية الراجعة لمعالجة التحديات أو الإخفاقات، وقد شكلت رؤية عمان (2020) أحد أبرز الطموحات التي عوَّلت عليها الدولة ومختلف قطاعتها لتحقيق المستوى الآمن لحياة الناس وانتعاش الاقتصاد، واختصارا لأهدافها فقد سعت إلى تنمية الموارد البشرية الوطنية وتعزيز قدراتها ومهاراتها، وخلق بيئة حاضنة للقطاع الخاص لتمكين الكوادر الوطنية العمانية في الإبداع والقيادة، وتعزيز دور القطاع الخاص في صناعة القرارات الوطنية مع الحكومة، وتحقيق التنويع الاقتصادي عوضا عن النفط والغاز، وتعزيز مستوى معيشة المواطن وتذويب الفوارق الاقتصادية والفئوية بين أطياف أفراد المجتمع، إلا أن الغريب في الأمر أمام كل ما قدَّمته مؤسسات الدولة لتحقيق هذه الأهداف بأي طريقة كانت لم يصدر تقرير أو بيان أو توضيح رسمي يُظهر مدى نجاح وتحقق هذه الرؤية أو (إخفاقها)، لكننا سنسلِّط الضوء على قراءة مؤشراتها ونتائجها من خلال دراسة نشرها الباحث سعيد بن محمد الصقري والذي تشرَّف بالثقة السَّامية ليكون منذ أغسطس (2020) وزيرا للاقتصاد بناء على المرسوم السلطاني رقم (111/2020) وبمعيته في الدراسة الباحثة آن بنت سعيد الكندية وهي مستشارة في الشؤون الاستراتيجية  وقد نُشرت دراستهما في مركز الخليج لسياسات التنمية بعنوان "رؤية عمان 2020 بين الواقع والمأمول" ونختصر نتائجها في الآتي:


-  أظهرت المؤشرات والأرقام إخفاقا – كما ورد نصا في الدراسة- حول تحقيق التنوع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط؛ حيث قُدِّرت مساهمة هذا القطاع 46.4% من الناتج المحلي مقارنة بــ38% في العام 1995، وشكَّلت نسبة القطاع النفطي ومشتقاته ما نسبته 69.4%، وارتفعت نسبة الاعتماد على المصادر النفطية في 2014 إلى 87% مقارنة بالعام 1995 والتي بلغت 77%.

- لم يتحقق التوازن بين مصروفات ودخل المال العام؛ حيث أن نسبة المصروفات الحكومية في العام 2004 بلغت 3.810 بليون ريالا عمانيا، لتقفز في العام 2014 إلى 15.172 بليون ريالا عمانيا.

- انخفض مستوى دخل الفرد الحقيقي من 6.412 ريالا عمانيا في العام 1996 إلى 6.029 ريالا عمانيا في العام 2014.

- وفيما يتصل بتطوير ودعم القطاع الخاص ليكون حاضنا للتنمية وتطوير الشراكة المجتمعية والمؤسسي؛ أظهرت المؤشرات صعوبة تحقُّق هذا الهدف في ظل تكتله وانكماشه.

 انقضت رؤية عمان 2020 بما لها وما عليها، وانطلقت الدولة الحديثة بقيادتها وفلسفتها ومنهاجها المتجددة  نحو تحقيق رؤية عمان 2040 بأمل كبير وطموح أكبر، رُسم معالمها، وخُطِّط لمساراتها بحرفية  مُطلقة، لتكون النقلة النوعية لعمان المتجدد باثني عشر ركيزة أساسية يتخللها جملة من الأهداف نوجزها  كما هو مدوّن في الإسكوا التابعة للأمم المتحدة من خلال الاهتمام بصورة مباشرة بالتعليم والتعلُّم والبحث العلمي والقُدرات الوطنية، والصحة، والمواطنة والهُوية والتراث الوطني والثقافة، والرفاه والحماية الاجتماعية، والقيادة والإدارة الاقتصاديتان، والتنويع الاقتصادي والاستدامة المالية، وسوق العمل والتوظيف، والقطاع الخاص والاستثمارات والتعاون الدولي، وتنمية المحافظات والمُدن المستدامة، والبيئة والموارد الطبيعية، والنُّظم التشريعية والقضائية والرقابية، وإدارة الهيئات والموارد والمشاريع الحكومية.

إن المُتطلِّع للجانب النظري والفلسفي للرؤية ومساراتها ومساقاتها وأدوات تقويمها وتتبع مؤشراتها واهتمام الحكومة يؤكد على  الجدِّية والاهتمام المُطلق نحو تحقيقها بأي ثمن كان، وهنا نطرح تساؤلات الشارع المشروعة:  فهل السَّواد الأعظم من المجتمع على اطلاع بهذه الرؤية؟، وهل الصورة واضح للمؤسسات ذات الصلة لتحقيق أهدافها؟، وهل لدينا مؤشرات قياسية ذات مسار حقيقي وسلس لتقييمها خلال العشرين عاما القادمة؟، وهل الارهاصات والمؤشرات المحيطة بالرؤية من خلال المستوى المعيشي للناس، ومعالجة مشكلة الباحثين عن عمل، وتقويم واقع التعليم، ومراجعات مستوى دخل الفرد، ودراسة أثر السياسات المالية المؤقتة تخرج بتقارير واضحة للدولة والمجتمع؟

إن هذا الرؤية تمثل مرحلة مفصلية في تحقيق النقلة النوعية لعمان ومواطنيها، وهي رهاننا الذي نعتز به لتقدم عماننا الخالدة لتكون رقما عملاقا ضمن مصاف الأرقام العظيمة، فلابد أن نقف في المربع الصحيح بكل ثبات ومسؤولية ويكون المجتمع على مستوى آمن من الفهم والاستيعاب والقناعة بركائز هذه الرؤية وأهدافها وخارطة طريق تنفيذها وملامسة نتائجها وتقارير تقيمها بكل شفافية ومصداقية لترتقي بطموحاته المشروعة.

الأربعاء، 13 أبريل 2022

المواطنة السياسية في المناهج العُمانية: بين مطرقة الطموح وسندان المعايير(2)

 …نستكمل سلسلة مقالاتنا في تِبيان واقع القيم السياسية في حقلنا التربوي العُماني، واستطرادا لفهم معايير سياسة التأليف وأسسه، وبناء المناهج الوطنية وتحليل المنطلقات والركائز القويمة التي بُني عليها المحتوى الدراسي مع ديناميكية الواقع العالمي، وتقارب الشعوب وقيمها فيما يُعرف بالمواطنة العالمية، لنتعرف بوضوح على موقعنا العُماني في الخارطة العالمية، وقد نوّهنا في مقالنا السابق عن أننا سنغور في تفسير وتحليل أحدث دراسة عُمانية بحثت في واقع تلك القيم في المحتوى الدراسي، والتي اعتمدت على تحليل مناهج الدراسات الاجتماعية لمرحلة التعليم ما بعد الأساسي، كنموذج أقرب لهذه القيم عن نظيراتها في المناهج الأخرى، وباعتبار أهمية هذه الفئة العمرية في فهم التيارات الفكرية والآيدولوجية المحيطة، وقد حازت هذه الدراسة على فرصة الترشَّح لجائزة الكلية كونها أفضل بحث صريح وجريء للعام الأكاديمي 2022م.

سعت الدراسة إلى الكشف عن ماهية القيم السياسية المضمَّنة في المناهج الحالية، والتي كشفت نتائجها عن أن أغلب الموضوعات السياسية ركَّزت على التاريخ السياسي العُماني، والأحداث التي شهدها العالم خلال العقود الماضية، وكفاح الإنسان عبر تعاقب التاريخ لتحقيق الحياة الكريمة، وحقن الدماء، والدفاع عن الأوطان، وهي موضوعات هامة وضرورية لدى النشء؛ نظرا لما أفرزته الأحداث الإنسانية عبر التاريخ من خطورة الصراعات الداخلية والخارجية على المواطنين والوطن، وقد يكون تشبَّع المحتوى بهذه الموضوعات نابع من رأي مؤلفي المنهج الدراسي في التركيز على ما جاء في النظام الأساسي للدولة، وانطلاقا من القوانين والتشريعات التي سُنَّت لحفظ الأمن والأمان، وتحقيق الاستقرار السياسي، والمحافظة على التلاحم المجتمعي، إلى جانب الاهتمام بمبادئ فلسفة التربية العمانية في خلق جيل واعٍ بما حوله، قادر على توظيف الطرق السلمية والحضارية في المطالبة بحقوقه، والقيام بمسؤولياته على أكمل وجه.

ولو تعمقنا في تفاصيل القيم السياسية التي تطرقت لها الدراسة نلاحظ أن قيمة “الاعتزاز بالوطن” جاءت الأكثر تكرارا وبنسبة (17.3%)؛ نظرا لكثرة الموضوعات المتصلة بالإرث التاريخي والحضاري العُماني، والعربي والعالمي الكبير لاستيعاب طبيعة الصراع العسكري والتجاري بين الحضارات القديمة للسيطرة على مضيق هرمز، وباب المندب، والدور البطولي للإمبراطورية العمانية في الحفاظ على استقرار المنطقة، ودور العمانيين في آسيا وجنوب شرق إفريقيا، وسعيهم نحو تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتمكُّنهم من تطهير سواحل بحر العرب والمحيط الهندي من القراصنة، وتأمين طُرق الملاحة التجارية، والانسجام والتداخل مع شعوب آسيا وجنوب شرق إفريقيا.

من جهة أخرى، فقد أظهرت النتائج أن أقل قيمة سياسية تضمنها المحتوى جاءت حول “المشاركة في مجلس الشورى” بمتوسط لم يتجاوز (1.3%)؛ لندرة الموضوعات ذات الصلة بمفهوم الشورى على الرغم من أهميتها في حياة الناس كمبدأ ديمقراطي إسلامي وإنساني رفيع، واعتبارها مسارا جوهريا للتكامل والمشاركة بين المواطنين والدولة في صناعة القرارات السياسية والاجتماعية والتنموية، إذ اقتصرت المناهج الحالية في التعريف العام بالسلطات الثلاثة القائمة (التشريعية، والقضائية، والرقابية) بينما خلت من أي موضوعات ذات صلة بهذه القيمة إلا في فقرة موجزة جدا ضمن موضوع “الجهاز الإداري للدولة ومكوناتها”.

تمثِّل قيمة الشورى أحد أهم مظاهر الديمقراطية للدولة الحديثة؛ فهي بوصلة الأمان للوطن والمواطنين في وضع الإطار العام لطبيعة العلاقة بينهما، وتعزيزها في المناهج الدراسية يُسهم في خلق جيل واع بماهيتها، وأهميتها، وآليات ممارستها، وهي تُمثِّل النضج الفكري والقانوني للمتعلم؛ لتدعيم الشراكة المجتمعية في التصويت وانتخاب من يراه مناسبا لخدمة الوطن والمواطنين تحت قبة مجلس الشورى، وقد يكون ضعف تضمين موضوعات الشورى في المحتوى الدراسي نابع من وجهة نظر مؤلفي المنهج الحالي بأن تجربة الشورى في السلطنة لا تزال في طور التأسيس والبناء، وتمرُّ بمراحل تطويرية بنائية مستمرة، إذ لم تبدأ بصورتها الحقيقية إلا في العام (1991)، وأن النظام الأساسي للدولة منذ صدوره بالمرسوم السلطاني رقم (101/1996) لم يعزِّز من قوة مجلس الشورى كمؤسسة برلمانية مستقلة لها قوتها على الحكومة، وإنما اقتصر دورها المعنوي في الجوانب الاستشارية، والتدارس ورفع التوصيات غير الملزمة على الحكومة، وبحث القوانين المحالة له من مجلس الوزراء، وإمكانية اقتراح مشاريع القوانين أو تعديلها، وحتى بعد صدور النظام الأساسي الجديد بالمرسوم السلطاني رقم (6/2021) ظلت نفس المواد القانونية مع إفراد قانون جديد باسم “قانون مجلس عُمان” الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/2021)، الذي ضمَّ تفاصيل غرفتي المجلس، وهما مجلس الشورى (المنتخب أعضاؤه من المواطنين)، ومجلس الدولة (المعيَّن أعضاؤه من السُلطان)، إلا أن القانون الجديد لم يُعزِّز الأدوات البرلمانية لمجلس الشورى كلجنة تقصِّي الحقائق، والاعتراض على قرارات الحكومة، والاستجواب، وسحب الثقة عن الحكومة وغيرها.

إن الحِراك الشعبي الذي شهدته سلطنة عُمان في السنوات المنصرمة، والذي طالب بالعدالة الاجتماعية، والإصلاح التربوي للمناهج، وتحسين ظروف الحياة الكريمة، وإعطاء مجلس الشورى الصلاحيات الرقابية الحقيقية للمطالبة بحقوق المواطنين والوطن، يُعطينا مؤشرا هاما بأن المواطن أصبح أكثر وعيا وانفتاحا بما يدور حوله، ويتأثر بالمتغيرات المحيطة من خلال فضاءات الإنترنت، ووسائل الإعلام المختلفة، ومدرك لقيمة الشورى المفترضة، وأهمية البرلمان كممثل له أمام السُلطان والحكومة والعالم؛ مما يتطلب على مؤلفي المناهج الوطنية والمعنيين غرس قيم المواطنة السياسية، وإعادة النظر في محتواها الحالي وفق معايير قويمة تمكِّننا من خلق مواطن مُؤهَّل في وضع صوته بمسؤولية لمن يُمثِّله نحو تحقيق طموحات وآمال وطنه والمواطنين.

المواطنة السياسية في المناهج العُمانية: بين مطرقة الطموح وسندان المعايير

 


استكمالا لمقالنا السابق الذي حاولنا من خلاله تأطير المسار الفلسفي والتاريخي لقيم المواطنة السياسية عبر الحقب الإنسانية المتواترة، نستطرد القول في أن غرسها وتعزيزها لدى النشء يُعدُّ مسؤولية وطنية تتطلب تضافر الجهود الرسمية والأهلية، وتوفير البيئة الحاضنة لاكتسابها واستيعابها وفهم مفرداتها وآليات ممارستها في الحياة اليومية للمواطنين، ويمثل الحقل التربوي أحد أبرز المسارات العملياتية لتحقيق هذه الغاية الرفيعة عبر مختلف مكونات البُنية التعليمية من إدارات المدارس والمعلمين، والمناهج الدراسية، والأنشطة المدرسية وغيرها. وتعدُّ مناهج العلوم الإنسانية الحاضن الأكبر لتلك القيم؛ حيث يعوَّلُ عليها القيام بدورٍ مهم وفاعل لتدعيمها نظرا لخصوصيتها وطبيعة موضوعاتها.

ولو أسقطنا ما تقدم على واقعنا العماني التربوي، نجد أنه وعلى الرغم ما أولته وزارة التربية والتعليم من اهتمام نحو غرس تلك القيم لدى النشء بتطعيم المناهج الدراسية عموما ومناهج الدراسات الاجتماعية على وجه الخصوص بموضوعات مستقلة تتصل بقيم المواطنة السياسية، وتشكيل لجنة متخصصة لدراسة واقع المناهج وموضوعاتها ودورها في تعزيز تلك القيم بعد أحداث العام (2010) والمطالبة بتحسين الواقع التربوي في السلطنة، فإن مؤشرات خطيرة ظهرت على الساحة الوطنية تجسَّدت في تجدد تلك الأحداث في العام (2011)، وتجددت معها المطالبات بتغيير المناهج الدراسية، وتضمين موضوعات ذات صلة بالقضايا الإنسانية والإسلامية والعالمية بمصداقية، والمطالبة بالتعددية السياسية، ومكافحة الفساد، وتخفيف القيود الرقابية المفروضة على الصحافة والرأي.

لقد أوحت الممارسات والسلوكيات التي صاحبت تلك الأحداث بوجود خللٍ في تلك المناهج والتساؤل عن المعايير التي بُني عليها الفلسفة الأدبية والأهداف الاستراتيجية ووضوح السياسة التربوية النافذة أو ضبابيتها؛ كونها لم تتمكن من إشباع حاجة الأجيال العُمانية في فهم الحقوق، وكيفية المطالبة بها، وما يترتب عليهم من واجبات تجاه الدولة والمجتمع؛ وهذا ما يدعو إلى مراجعة هذه المناهج وتحليلها من أجل تقويمها، حتى يُتَمكَّن من معرفة أسباب الخلل القائم؛ سعياً وراء الوصول إلى بناء مناهج متكاملة تحقق آمال الأجيال، وتسدُّ حاجة المجتمع لمواطنين مُلتزمين وواعين بواجباتهم وحقوقهم في المجتمع الحديث، ومما يُعزِّزُ هذا الطرح (إعادة النظر إلى مراجعة قيم المواطنة السياسية في المناهج) ما نوَّهت إليه جُملة من الدراسات التربوية بأن شعور الطلبة نحو محتواها، وطرق تدريس المعلمين لها كان سلبيَّاً؛ لإحساسهم بجمودها، وعدم ارتباطها بالواقع الذي يعيشون فيه، وضعف مصداقية موضوعاتها، وعدم تمكّن معلميهم من التطرق إلى الموضوعات السياسية، والاجتماعية الجدلية أو تخوّفهم في التطرق إلى ذلك كدراسات (Selaibeekh, 2017؛ Khaled, 2013؛ Ciftcl, 2013؛Russell& Waters, 2010)، أضف إلى ذلك فإن تقصِّي الباحث للمنظومة البحثية التربوية في السلطنة حول هذا الموضوع أظهرت ندرة في البحث والنوعي لها، فلم يجد إلا دراستين أجريتا قبل عقدين ونيف من الزمن إحداهما للدكتور سيف المعمري في العام (2002)؛ والأخرى للباحث عامر العيسري في (2001) واللتان بحثتا في مستوى توافر تلك القيم في مناهج التربية الوطنية (التي أُلغيت بعد ذلك)، وقد كشفتا عن مستوى توافر ضعيف وغير متوازن للقيم السياسية في محتوى تلك المناهج.

وعلى ضوء ما تقدم؛ فإننا بحاجة ماسة لاستقراء واقع درجة تضمين القيم السياسية في مناهجنا الوطنية الحالية، ودورها في تعزيز مفهوم المسؤولية الوطنية، وخلق مسارات الوعي السياسي الآمن في ظل التقلبات المحيطة بهم، وإدراك ماهية الحقوق والواجبات وهما طرفا معادلة الأمن والأمان بين الناس والدولة في كل حقب التاريخ الإنساني؛ حيث سنعمل في مقالنا القادم استقراء نتائج دراسة دكتوراه حديثة وتحليلها صدرت عن الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا في هذا العام (2022) وقد حصلت على أفضل بحث صريح وجريء على مستوى الكلية، سنتحقق من خلالها عن مدى توافر القيم السياسية في مناهج الدراسات الاجتماعية (كنموذج)، وهي أقرب المناهج الدراسية للقيم السياسية عن نظيرتها من المناهج الإنسانية، ومن خلالها يمكننا إسقاطها على تفسير السلوكيات التي حصلت في الفترة المنصرمة وتجددها بين الفينة والأخرى؛ لنقف على المربع السليم عن درجة الوعي السياسي للشباب العُماني، وطرح التحديات التربوية والحلول والمقترحات التي يمكن أن يستفيد منها صُنَّاع القرار في بناء المناهج الوطنية الآمنة في ظل الحِراك الراديكالي العالمي المتلاحق

المواطنة السياسية: طموحٌ تربويٌّ وخشيةٌ سياسيّة

 تُعدُّ المواطنة السياسية والتربية عليها من أصعب المهمَّات وأعسرها التي واجهت الأمم قديماً وحديثاً؛ نظراً لصعوبة تحديد مفهومها الدقيق من جهة، ولآلية ممارستها على الواقع من جهة أخرى؛ فالمواطن الصالح يكشف الوضع الحقيقي لأيّ أمّة وحضارة، وقدرتها على صمود مشروعها الحضاري، وقوة قيَمها وفلسفتها اجتماعياً وتربوياً وسياسياً؛ لذا أولتِ الْحضارات القديمة السابقة اهتماماً كبيراً بهذا المجال، فاهتمّ الفراعنة بنشر قيَم الطاعة، والولاء، والإخلاص للملك والوطن، ونادى فلاسفة الإغريق ومفكروهم بنشر القيَم الفاضلة بين المواطنين؛ ليُمايزوا بين الخير والشر، والحقّ والباطل، وتهيئة مواطنين نافعين مخلصين لأثينا التي كانت ترمز للحرية والعدالة، فنجد أن أعظم فلاسفتها “أرسطو” يرى أن المواطنين هم أساس نجاح أمن نسيج الدولة الاجتماعي واستقراره وتلاحمه، والسياسي، ونموّها الاقتصادي؛ مما يستوجب على النظام الحاكم تحقيق العدل، والمساواة، وإشراكهم في الحياة السياسية، والتشريعية، والاجتماعية، والاقتصادية.

واستندت الفلسفة السياسية للحضارة الرومانية على الحماية الشخصية للمواطنين، والحفاظ على ممتلكاتهم وحقوقهم القانونية، وتجنيبهم المحاكم التعسفيَّة، والتعذيب، والإهانة، والعنف الديني والسياسي، وسَعت الحضارة الصينية القديمة إلى تعليم أفرادها القيَم الفاضلة النبيلة؛ للدفاع عن كرامة الأمّة الصينية وحماية الحقوق الشخصية.

لم يستمرّ هذا البناء التراتبي لمفهوم المواطَنة السياسية وقيمها وممارساتها في أثينا ولاحقاً في روما طويلاً؛ حيث فقدَ المواطنون حقوقهم، وكُلِّفوا بالواجبات والالتزامات والضرائب تجاه الدولة، لتشهد أوروبا حتى نهايات القرن السابع عشر انحساراً كبيراً في قيمة المواطن وحقوقه، واضمحلال الديمقراطية، وانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية؛ الشيء الذي خلق غضباً شعبياً وسُخطاً كبيرين بين الشعوب، وكانت نتيجة تراكم احتقان الطبقة الكادحة وغضبها من العُمَّال والفلاَّحين والفقراء والطبقات المتوسطة وما دونها تجاه الأرستقراطيين والبرجوازيين والنُبلاء، والذي خلق حِراكاً مجتمعياً تمثَّل في الثورات الشعبية والاعتصامات والمظاهرات، التي دفعت الطبقة السياسية إلى التفكير في منح القيمة الحقيقية للمواطنة، وخلق التوازن بين الحقوق والواجبات.

إن لمعرفة قيم المواطنة السياسية وممارستها أهمية كبيرة على مستوى الفرد والجماعة؛ فذلك يدفع الفرد للتعامل مع الآخرين وفق نسق ونظام قِيَمِيّ يكون بمثابة الموجِّه لسلوكه، ونشاطه، وتصرفاته، وانفعالاته، كما أن أيَّ تشكيل مجتمعي هو بحاجة لنسق قِيَمِيّ، تتضح من خلاله أهدافهم ومُثلهم العُليا، لتحفظ حياتهم الكريمة، وتُحدِّد أنشطتهم، وطبيعة علاقاتهم الإنسانية.

ومن أولويات التربية وأهدافها الرئيسة هو غرس تلك القيم وتعزيزها في نفوس المتعلمين عبر المنظومة التعليمية. وتشكل المناهج الدراسية أحد الأعمدة الرئيسة في المنظومة التعليمية؛ حيث تسهم بصورة كبيرة في غرس تلك القيم وتعزيزها عند الطلبة، فاهتمت العديد من دول العالم بإعادة هندسة المناهج وتصميمها بما يتوافق واكتساب متعلميها؛ حيث عملت المملكة المتحدة منذ العام (1998) على تعزيز تضمين محتوى المناهج الدراسية بشكل عام، ومناهج الدراسات الاجتماعية والتربية الوطنية بشكل خاص بموضوعات تتصل بالمواطنة السياسية، وعدّت الحكومة المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية أن قيم المواطنة السياسية هدف قومي سامٍ، فوضعت استراتيجية وطنية لآليات إكسابها عند المتعلمين، وسعت الحكومة الكندية إلى وضع استراتيجية وطنية تُعزَّز من مفردات المواطنة السياسية ومفاهيمها وقيمها، وتغيير مفهومها النمطي المحصور بين القوانين والدستور إلى المشاركة المجتمعية والممارسة السياسية في خدمة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، ووجَّهت الحكومة السويسرية المؤسسات التربوية والتعليمية إلى الاهتمام بتربية المواطنة السياسية في المرحلة الثانوية وتعزيز قيم التسامح، والاحترام، ونبذ العنف والتشدد، واستيعاب مبادئ الديمقراطية، والحرية، والمسؤولية العالمية، والعمل التطوعي، والتعاون مع المنظَّمات الوطنية والعالمية، كما أنه وبعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) توجَّهت الحكومة اليابانية إلى تحويل الفكر السياسي والمدني لدى مواطنيها من النزعة العسكرية إلى النزعة المدنيَّة الديمقراطية والإنتاج، فأعادت هيكلة فلسفتها التربوية وتصميمها وأهدافها لخلق مسارات التواصل السليم مع المجتمع الدولي، وتعزيز حبّ العمل، والإنتاج، والجودة، والإخلاص في سبيل رفع مكانة الأمة، وخلق ثقافة مكافحة الفساد وتعزيز قيم النزاهة والمسؤولية
.
وعلى الرغم من أن العديد من الدراسات العلمية البحثية تُشير إلى أهمية الدور التربوي الذي يمكن أن تحققه المناهج الدراسية بشكل عام في غرس قيم المواطنة السياسية وتعزيزها عند المتعلمين فإن أغلبها تؤكد على أن مناهج الدراسات الاجتماعية هي الأنسب لتحمُّل هذه المسؤولية؛ لما تتميز به عن نظيراتها في القدرة على احتواء أغلب تلك القيم وترجمتها واقعاً وممارسةً.

فمناهج التاريخ تغرس في نفوس الطلبة الاعتزاز والفخر بالإنجازات الحضارية التي قدَّمها السابقون في سبيل الدفاع عن الأمة، ومقدَّسات الوطن، وكرامته، والسعي نحو الحياة الكريمة، وتُساعد مناهج الجغرافيا على استيعاب خصائص الوطن، وما يحتويه من إمكانيات طبيعية وديموغرافية، وتَتَبُّعٍ لمسيرة حياة الإنسان فيه منذ القِدم، وعلاقته المتبادلة مع البيئة، والمشاكل التي تعاني منها للسعي في إيجاد الحلول.

لقد أوصت العديد من المؤتمرات، والندوات، والملتقيات العلمية بانتقاء القيم السياسية المراد تضمينها في محتوى مناهج الدراسات الاجتماعية، واختيارها بعناية ودقّة لتُبرِزها بصورة صحيحة ومنطقية تساعد الطلبة على استيعابها وتعلُّمها وممارستها؛ فيتربَّون على الفضيلة ويمقتون الرذيلة، ويتوافقون مع فلسفة مجتمعهم وقيمه المنبثقة من ثقافة السلام، والمحبة، والبناء، واحترام القانون، والدفاع عن الوطن، والاعتزاز بالمنجزات الوطنية، وتهيئة المواطن الصالح؛ حيث أصبحت الحاجة ماسّة لتكثيف البحوث المتصلة بقيم المواطنة السياسية في مناهج الدراسات الاجتماعية وفحصها وتحليلها ومعرفة مدى وعي المعلمين بها وممارستهم لها أمام ما نشهده من إفرازات العولمة؛ للوقوف على واقع مستوى تضمينها وانسجامها كمَّاً وكيفاً مع ثوابت الأمة في ظل المتغيرات الوطنية والعالمية، وقياس مدى قدرتها على القيام برسالتها المنوطة بها، وعلى رأسها بناء المواطن الصالح المسؤول، وتتمثل آلية التأكد والتحقق من ذلك من خلال تحليل محتوى المنهج الدراسي للكشف عن الموضوعات ذات الصلة، ورصد آثارها وتبعاتها، ومحاولة السعي لتصحيح المسار إن تبين ثمة نقص أو قصور في أحد أركان العملية التربوية.

وبناءً على ما تقدم من سرد تفصيلي لتأصيل هذه السلسلة من المقالات المتخصصة في علوم المواطنة؛ فإننا بحاجة إلى إسقاط ما تقدم على واقعنا العُماني لنستقرئ تلك المؤشرات العلمية في مقالات قادمة بعون الله

الأربعاء، 7 يونيو 2017

أَتــَسْـتَـفتـُـونَنِيْ وَفِـيْكُـمُ تَـرَامْـب؟!

يبدو أن التخبط الأمريكي في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية بات يوحي باشتعال الرأس شيباً، وبالمقابل نجد لوحة فنية بديعة للأنامل الروسية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ويبدو أن صراع الكبار بدأ يضع أوزار الحرب الباردة على صفيح من نار، فأمريكا التي زغردت وزمجرت للثأر سياسياً وعسكرياً وسيادياً ممن تراهم براثن البشرية ولعنة ديمقراطيتها بدأت اليوم تهيم على وجهها في مستنقعات حالكة وكأنها ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، فقبل أيام أعلن ريكس تيلرسون - وزير الخارجية الأمريكي- أن بلاده بحاجة إلى استراحة محارب؛ لتقييم مسار المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية التي أكلت البشر والحجر لأكثر من ستة عقود ونيف من الزمان، في وقت كان دونالد ترامب يملئُ العالمُ ضجيجاً بأنه مصباح علاء الدين السحري للبتّ في هذا الحمل الثقيل الذي ترفّع عنه العرب وجعلوا الفلسطينيين وقوداً لنار الاحتلال، والمتتبع لحقيقة (الأوفر تايم) الذي أعلنه تيلرسون ما هو إلا دلالة على احمرار خد أمريكا من صفعات انهالت عليها من الكيان الصهيوني المتمثّل في نشر سرطان الاستيطان في القدس الشرقية وما بقي من أراضي (1967)، علاوة على المُماطلات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تنتهجها سياسة بنايمين نتنياهو – رئيس الوزراء الإسرائيلي- والتي تُتقن لعبة استغلال الوقت لصالحها، وما أعلنه ترامب ما هو إلا استصراخ صقور وحمام الكونجرس أننا لا نملك من الأمر شيئاً.

وفي الملف السوري يبدوا أن إعلان الرئيس بشار الأسد بقائه في السلطة وفقا للدستور الجمهوري السوري بل ونيته في مرحلة سابقة  بالترشح للرئاسة– وهو الفائز لا محاله- يشكل صفعة أخرى لترامب في وقت حُشرت فيه أعيُن العَالم نحو فوّهات البوارج والطائرات والقاذفات إبان حكم سلفه أوباما وحينما كان وزير خارجيته السابق جون كيري حصان طروادة الذي قاب قوسين من رسم صورة أخرى للمشهد السوري على غرار المستنقع العراقي إبان غزو (2003)، لكن البراعة الروسية أقوى مما كان يتوقعها الأمريكان آنذاك والذي أوهَم وزير خارجيته بحسن نوايا الروس فجعله حملاً وديعاً في أحضان لافروف – وزير الخارجية الروسي-  وزبانيته؛ إذ كان الفيتو الروسي حرسُ الحدود لأي تدخلٍ عسكري في سورية، وحينما اجتمع الكبار والأقزام في "جنيف1" واتفقوا على أن يتم نقل السلطة سلمياً من الأسد إلى من يراه الشعب السوري ممثلا حقيقيا له، استطاع لافروف (بنفاقه) السياسي أن يلدغ كيري بلسعات مسمومة عبر إفشال الخطوات التنفيذية المزمع ترتيبها في لقاء "جنيف2" والذي خرجت فيه جميع الأطراف بخُفي حُنين، وظل الرئيس الأسد يُعلنها جهاراً نهاراً أنني أنوي الترشح لولاية رئاسية جديدة، مُتخطياً في ذلك كبرياء أمريكا التي أضجّت العالم بصراخها وعويلها، بينما نجد أن لافروف يحشو الغليون في مدوخه وهو يغرد: "نحن لا نتدخل في السيادة السورية" وكأن الماء البارد قد انسدل على وجه كيري الذي بدا يستصغر نفسه وكأنه مُهرَّجٌ مجنون بين عصى بوتين وجزرة أوباما.

وفي المشهد العراقي نجد أن حكومة ترامب تقف موقف المُتفرج عما تشهده البلاد من اثخان في جِراحاتها المزمزنة والمُفعمة بالتصفيات السياسية والحزبية والمذهبية لتعلنها للملأ "يجب أن تكون هناك نيّة صادقة نحو اللحمة الوطنية في العراق" دون أن يكون لها أي موقف إزاء التدخلات الإيرانية وبعض الحركات الدينية التي تقتل الحياة البرلمانية والديمقراطية فيه، في وقت يفجر ربيبهم المدلل لثمان سنوات سوداء في رئاسة وزارء العراق "نوري المالكي" مفاجأة من العيار الثقيل أن "داعش" وسقوط الموصل بيدهم في العام 2014 وهي المحصّنة آنذاك بثلاثة ألوية كاملة ما هي إلا صناعة أمريكية وباتفاقيات مبرمة.

وولوجاً إلى المشهد الأوروبي يبدو أن ترامب يتلقّى صفعات متواترة من الروس وبالأخص من موقف الأخيرة الحازم في القضيتين الأوكرانية والسورية، فنجد أن حكومة ترامب تكرُّ وتفرُّ نحو القضيتين بخطى مبعثرة يغلب عليها التقهقر والرجوع إلى سياسة العُزلة التي انتهجتها إبان الحرب العالمية، ومما يتّضح أن الأمريكان يشعرون بالغضب الروسي في هذه المنطقة، والدليل على ذلك الرد الأمريكي الباهت نحو استحواذ الروس على شبه جزيرة القِرم، كما أن التدخلات الروسية في البيت الأوكراني واضحة للعيان لكن الموقف الأمريكي والأوروبي يشي بخطورة الموقف نحو أي مُراهنات أو حماقات قد ترتكبها حكومة ترامب في ظل رحابة الصدر التي انتهجتها حكومة بوتين نحو العقوبات الاقتصادية وهي تعلنها بوجهٍ صبوح "لكم دينكم ولي دين" وبالمقابل تُهدِّدهم "كُل نفس بما كسبت رهينة"، وكأنها بذلك تفتح على الأخير رُدهات مُظلمة توحي بخطورة المجازفة في ظل التحدي الروسي الكبير.

 وفي المشهد الإيراني يبدوا أن الضبابية هي سيدة المشهد في وقت ترقّب العالم أن يُغلق هذا الملف بغطرسة رجل المال والاقتصاد الذي راهن عليه العالم بقوة شخصيته وصراحتها وجرأتها، لكن يبدو أن النفوذ الروسي يمتصّ الغضب الأمريكي من خلال المُماطلات و(التّقيّة) اللافروفية في الملف النووي الإيراني، وعلى الرغم من الوساطة العُمانية في ردء الصدع بين الأمريكان والإيرانيين إلا أن المماطلة الناجحة للإيرانيين تسير على خطى الروس بثقة واتقان، وأمام هذا الثقل الكبير الذي يلقيه الروس على صدر ترامب المتحرِّز حتى اللحظة في كثير من الملفات الساخنة قدِم إلى الخليج في زيارة هي أشبه بترقيع مشهدٍ متناثر في ظل صراع واستعراض القوى بين دول المجلس مدفوعة بمؤثرات خارجية، وكأن لسان حاله يقول هبوني المشيخة ودثّروني ببشتٍ مُطرّز بالذهب (أُلحّفُ) به جراح الروس في جسدي وأظهرُ شيخاً جليلاً وقوراً يتمتع بفقاعات سياسة فذّة كما ألفناكم في كثير من قضاياكم؟!

والمتببع لأبهة الاستقبال وحفاوة الضيافة وكثرة جموع المستقبلين لهذا الضيف الذي طالما غنى في مناظراته الانتخابية أنه سيحلب جيوب الخليج والعرب، جاء ترامب وهو يقود معه بنته الحسناء التي أستنهضت مشاعر الشعراء الذين أسدلوا عليها وابلا من قصيد الغزل والمدح بل وتم توظيف بعض المشاهد سياسيا واجتماعيا، حضر العدد الغفير وهم لم يحضروا في قمة عربية أو إسلامية بهذا الجمع الكبير، أكرموه وأنعموا عليه وأعطوه (المقسوم) على شكل صفقات أو هبات أو استثمارات، ومثل تكلك الحفاوة تنبئ أن العرب يرون في هذا (البوديجار) مارد علاء الدين لحل قضاياهم الكثيرة التي أزعجت وسببت لهم الصداع، هو لم يتحدث عن المشهد الإيراني والذي يبدوا أن الهدف الأساسي لكل هذا الاستقبال العربي، ولم يتحدث عن القضية الفلسيطينة والاستيطان وهي القضية المصيرية الأبدية في النضال العربي، ولم يتحدث عن الانتهاكات الصهيونية  والتي تقتل البشرية يوما تلو الآخر، فيبدوا أن العرب يجدون فيه قمة الحنان والعطف وهو الذي عُرف عنه دفاعه المطلق والحقيقي عن مصلحة بلده في المقام الأول كما أظهر ذلك في انتقاده للاتحاد الأوروبي أن أمريكا لن تدفع أكثر من الأعضاء فعلى كل واحد منهم مسؤوليته، لكن المتتبع يجد وكأن العرب جعلوه "شيخ المسلمين"، فلسان حالهم حينما تستفتيهم عن برامجهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المرحلة القادمة إبان الرئاسة الأمريكية الجديدة يقولون لك: أتستفتونا وفيكم ترامب!؟.


تقبّل الله منكم صيامكم وصالحات أعمالكم،،،

تَسَاؤُلاَت مُوَاطِنٌ خَلِيجِيٌّ

"لا يعبرون أجوائنا ولا نعبر أجواءهم، لا يزوروننا ولا نزورهم، نقطع عنهم حدودنا البرية والبحرية ويقطعوا عنا ذلك، نسحب سفيرنا وممثلينا ويسحبوا سفيرهم، هم ليسوا منَّا ولسنا منهم"، بمثل هذه اللّكنة الغليظة نهش الإعلام (السعودي- الإماراتي- البحريني) لحم أختهم (قطر) دون إكراه، وبمثل هذه اللّغة الرّعناء اهتز عرش الاتحاد الخليجي الذي لم يولد بعد، فقد استيقظ المواطن الخليجي في العاشر من رمضان المقدّس وهو يسمع صافرات القطيعة تسير على مؤسسات جيرانه، كانت بدايتها انتقادات ثم توبيخ ثم قطعية حتى وصل الأمر إلى التهديد (بما هو قادم) ولربما تغيير نظام الحكم والتدخل العسكري كما بطّن ذلك أحد المسؤولين في هذه الدول الثلاث، ويبدوا أن الفاجعة الخليجية تُنبأ عن أحقاد دفينة بلغ الصبرُ منها مبلغه، وتُنذر عن غضبٍ عميق يتلظًّى ببعض القيادات في سبيل تغيير البيت الخليجي أمام التغيّر في الفكر السياسي والاجتماعي مع تقلبات المرحلة من ملفات ساخنة يتصدّرها حروب الاستنزاف والملف الإيراني وثقافة التبعيّة.

وبالرجوع إلى الشرخ الخليجي المُوغِل نقرأُ من ذلك الكثير من الرسائل والتساؤلات التي يمكنها أن تُبرر حقيقة الرفض العُماني – آنذاك – في عدم الولوج إلى الاتحاد الخليجي والذي بُني أساسهُ على مقاصد خارجية في المقام الأول يتقدمها تأسيس جدار منيع أمام التمدد الإيراني، فمن يُمعن النظر في دلالات هذه القطيعة يستنتج ويتساءل في آنٍ واحد بما يلي:

1. لا يوجد توافق خليجي حقيقي نحو المصالح الوطنية العامة، كما أن الاستراتيجيات القومية لها تُبنى على المواقف الارتجالية دون الدراسة والإمعان في التبعات اللاحقة، فأصل الاتحاد يُبنى على توافق الجميع دون النشاز عن هدف معين لأي عضو، فإن كانت هناك اعتراضات معينة تُدرس ويتم التباحث فيها للوصول إلى الغاية، لكن ذلك لم يكن موجودا في حرب اليمن، وسوريا، وليبيا، ومصر، فتجد أن المشاركات في هذه الأحداث تقوم على شراكات أحادية أو ثنائية دون الالتفات إلى مكوّنات الأعضاء الآخرين للمجلس.

2. من الملاحظ أن قيادة الاتحاد الخليجي يُراد لها أن تكون بالتوريث دَيْدَنُها كخلافة الحكم في الأنظمة الخليجية، ويتبيّن ذلك من اعتراض دولة قطر في الأزمة الحالية بأن تكون تابعا للسعودية وقراراتها؛ وفي ذلك إشارة إلى أنها تود أن يكون لها سيادة قرارتها ومواقفها في بيتها الخليجي والعربي والعالمي كما هو حال سلطنة عمان، ومثل هذه التصرفات هي ما أثارت الغضب الخليجي الثلاثي والذي اعتبرته (قطع يد الطاعة)، فالفكر القيادي السعودي يرى من نفسه الزعيم دون منافس لاعتبارات الأرض و الديموغرافيا والمال والسلاح والزخم الديني، بينما تجد دولة قطر أنها صاحبة سيادة ولا يمكنها أن تكون البحرين الثانية التي تتبع الآخرين حتى في الحديث الذي يُراد أن تقوله؛ لذلك نجد أن قطر اليوم تُبرِّر موقفها بأنها ترفض الوِصاية على وجودها ومستقبلها.

3. نُشاهد أن الإعلام الحر في الوطن العربي بشكل عام والخليجي بشكل خاص أصبح يفتقر للمهنية والحرفيّة وينحى اتجاه الحضيض والإرهاب؛ فمن يتابع إعلام الدول الثلاثة المقاطعة يجد وكأنها تتحدث عن النكسة العربية الكبرى في التفريط عن فلسطين والتحريض ضد الصهاينة!، فمن يتتبع الإعلام (الرسمي) يجد أنه يصنّف دولة قطر وكأنها "داعش" الذي يجب أن يُجْتَذَّ من جذوره، فتجد فيه الغثّ والسمين والذي يحاول أن يُسقط الغضب الرسمي إلى المواطن الخليجي وتحريضه تجاه القيادة والشعب القطري دون أي اعتبارات للثقافة، واللغة، والعادات، والتقاليد، والتاريخ، وفي ذلك مؤشر خطير لحقيقة الثَّقة الخليجية ببعضها البعض في المرحلة الآنية والقادمة.

4. السلوكيات والقرارات التي اتخذتها دول المجلس الثلاثة وربما بعض التابعين لهنَّ بدول عربية هي قاسية وغير محسوبة إطلاقا، وهذا الحجم من القطيعة يُنذر بأن الدول الثلاثة لا تريد إيصال رسالة لقطر بقدر ما أنها تود تركيعها وفرض الوِصاية القسرية، ومثل هذه السابقة في البيت الخليجي تُشعرنا كمواطنين أننا بحاجة إلى إعادة هيكلة النفوس قيادة وشعوبا، فقرارات ارتجالية يدفعها الحماس والمشاعر وحب الانتقام لا يمكنها أن تَبنِي مؤسسات التنمية الحديثة بدول المجلس إطلاقا، فإن دلَّ ذلك على شيء فهو بُراهنٌ حقيقي عن عمق الخلافات الخليجية البيّنية والتي ربما تكون الساحة العربية بعد حين حلبة صراع بينهم بالمال وتجييش العصابات والمرتزقة والتي ربما تضرب بعد حين الاستقرار الخليجي.

5. من الواضح جدا أن الدول الخليجية الثلاث ماضية نحو التصعيد وتحقيق الهدف، بينما نجد أن قطر تتحلى بسياسة الترويّ وإيجاد مخارج لها في سبيل تسيير أمور حياتها، بل أكبر من ذلك أن الأخيرة لم تسحب قواتها المشاركة في حرب اليمن على الرغم من إصابة ستة جنود من جيشها قبل اندلاع الأزمة بيوم واحد، فلمن الحكمة والعقل في هكذا مواقف؟

6. يتساءل المواطن القطري خاصة والخليجي عامة هل بالفعل قطر ترعى الجماعات الإرهابية وعصابات المترديّة والنَّطيحة والمغضوب عليهم في السعودية والإمارات والبحرين؟، وهل بالفعل كانت هناك خطابات بينيه لحل هذا الموضوع – إن ثبتة صحته -؟، هل البيت الخليجي بحاجة لهذه البهرجة الكبيرة لكي يناقش بعضه البعض وإعلامهم وعلى مدار سنوات طويلة يقرع طبول التآخي والتعاون والمحبة والدم الواحد وغيرها من الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية، فهل نحن صادقين فيما بيننا؟

7. يبدوا أن الاتحاد الخليجي قائم على ضلعين منفصلين، الأول ثُلاثي يضم (السعودية، والإمارات، والبحرين)، والثاني يضمهنَّ جميعا (السعودية، والإمارات، وقطر، وعُمان، والبحرين، والكويت) فكيف له يبني قراراته ومواقفه ويعمل على تحقيق التنمية المستدامة للدول الأعضاء؟!

نرقبُ التَّغيرات والتطورات بعين الرجاء أن يعود البيت الخليجي أكثر قوة ومتانة فيما بينه، وأن يستوعب ساسته وشعوبه حقيقة الاتحاد الخليجي بكل ما يحمله هذا الشعار من معنى،،،

دمتم باتحاد ومحبة

الاثنين، 20 مارس 2017

مجموعة "عاشقُ القمر".. حديثٌ للرُوح

كقارئ قبل أن يَخطَّ قلمي الكتابة والمُتابعة للمشهد الكتابي العماني الأدبي، شعرتُ بركودٍ نقديٍ لإصدارات الكُتّاب العمانيين في المشهد الثقافي الأدبي إن لم يكن فقراً مُدقعاً لمُتابعة ومواكبة وتغطية الإصدارات الجديدة باستثناء بعض الومضات الخجولة ضمن فقرات معرض الكتاب الدولي فقط، والأهم من ذلك أن أغلب الكُتّاب العمانيين – وبالأخص الشباب-  يعملون بصمت وبعيدا عن الضّوضاء، فنجد أن إصداراتهم تلقى تغطية من معظم وسائل الإعلام العربية، فهم بذلك خارج السلطنة أكثر حضورا من الداخل وهذه قضية بحاجة إلى طاولة مُستديرة للبحث والتقصِّي، وعلى العموم فإن المشهد الثقافي يُبشِّر بالخير العميم؛  فأكثر الكُتّاب الشباب – قد أكون مخطأُ – يتّجهون نحو الاستقلالية والبحث عن النصوص الحقيقية والتجديد بعيدا عن التّنظيرات والبهرجة والتغطيات والابتسامات الصفراء.
 وفي هذا الإطار عملت بعض الصُّحف العربية قبل أيام بتغطية حول المجموعة الجديدة للكاتب العُماني "خليل خميس" والتي حملت عنوان "عاشق القمر"، هي مجموعة قصصيّة وتُعتبر الأولى له فجميع مؤلفاته السابقة عبارة عن روايات بداية من "بيعة الروح" و"ثلاثية الصمت" و"الفلامنجو يُهاجر من تلمسان" و "لن أحمل البندقية" و "إنتظار"، والمُتلمِّس لعنوان المجموعة الحالي يجده ينضح ومنذ العتبة الأولى بالرومانسية والرِقّة التي ستقود القارئ نحو حديقة غنَّاء مليئةٌ بالقصص المتنوعة والأفكار العديدة.
"عاشق القمر" من لا يُحب القمر؟ ولماذا اختار الكاتب القمر بالذات؟ ولماذا هذا الإصرار على تشبيه الحبيب بالقمر منذ القِدَم ؟ هل يقصد الكاتب القمر الحقيقي الذي نراه في السماء أم القمر هو الحبيب والخِّل ؟، أسئلة كثيرة وجدتُ نفسي غارقا فيها وأنا أتصفح المجموعة لأول مرّة، شعرتُ بأنني منقاد نحو عالم الكاتب عبر فضاءات نصوصه السبعة عشر: "في بئر العصافير" و"الرحلة الطويلة" و"ومضات من مُخيّمات اللجوء" و"تميمة اللَّاعودة" و"نهاية الأسطورة" و"المحارب النبيل" و"رحيل غامض" و Dominika)) و"مبدأ ومصلحة" و"المنحدرات الزَّلقة" و"كان لي وطن" و"شجرة النَّبق الكبيرة" و"نحو المجهول" و"نريدك أنت" و"عاشق القمر" و"ارتْحَلّوا" و"رسالة حُب بطعم الألم"، نلحظُ تنوعا وتجديدا في العناوين التي لا تخلو منها كل قصة على حده.
 يُشعرك القاصّ بجمال الانتقال بين التاريخ والواقع والفكر والفلسفة، بين الألم والفُكاهة والحُزن، مجموعة تضجُّ بالكثير من المتناقضات والجدل والغرائب؛ وفي ذلك إشارة إلى أن القاصّ يمتلك رصيداً واحترافية في مهارة تحويل تلك القضايا والوقائع إلى نصوص  تنبض بالحياة عبر نافذة  الحوار والتماهي الذاتي كما يظهر ذلك جليّا في قصة "المنحدرات الزلقة" و"عاشق القمر"، ولنأخذ بعض النماذج من نصوص المجموعة فمثلا قصة "في بئر العصافير" مزج القاصّ التاريخ بالواقع مع الفكاهة، فسالم الذي علاقته بقيد الأرض سلطان بن سيف اليعربي وما رافقها من معارك وتهديد لأحد قادة الغُزاة وما تم تداوله من رسائل تهديد بين الطرفين، حيث الفصاحة واللغة لم يكن في نهاية المطاف سوى غيبوبة طويلة فيها ذلك الحلم الذي ينتهي بضرب القائد البرتغالي الذي لم يكن سوى ممرضة هندية كانت بالقرب منه، لقد كانت نهاية مُضحكة وغير متوقعة لكنها بالغة الأهمية.
أما قصة "الرحلة الطويلة" فهي إحدى قصص التغريبة العمانية التي تتحدث عن الغربة وتوابعها؛ فجاءت توضّح ما قام به الأجداد من مشقة لكسب العيش، علما بأن القاصّ لديه رواية كاملة بعنوان "ثلاثية الصمت" تتحدث إحداها عن أيام الغربة العمانية قبل النهضة العمانية المبارك، أما قصة "نبضات من مخيمات البؤس" فلم تغب القضية الأولى والأساسية عن القاصّ والعرب جميعا وهي ألا وهي القضية الفلسطينية؛ حيث ينطلق من مخيم اللجوء والشتات "مخيم الرشيدية" إلى ميدان الإبداع والتميز، فتوضّح القصة أن لا حدود للإبداع والتميّز لدى الشعب الفلسطيني رغم المآسي التي مرّت وتمر عليه، وكانت نهاية القصة تراجيدية جدا؛ حيث ختم عارف حديثه - خريج المخيم- قوله: "إنه السجن الكبير الذي عشته وعاشه قبلي وتعيشه الأجيال الحالية"، فالقضية الفلسطينة حاضرة لدى القاصّ في قصة أخرى من الكتاب والتي بعنوان "Dominika" وهي قصة جميلة جدا بطرح ذكي وبأسلوب فذّ.
وأما قصة "تميمة اللاَّعودة" فجاءت ضمن مئات القصص التي يحاول بعض المُخلصين التغيير في واقع أوطانهم نحو الأفضل وبالطرق السلمية المعروفة، لكنه يتفاجأ بالجُدُر الأمنية التي يصطدم بها لتدور الأحداث والحوارات التي تبحث عن صيغة فلسفية وأًطر معرفية في العلاقة بين من يُنفّذ القانون وبين من يحاول إيجاد صيغة توافقية للخروج من أخطاء الواقع أو قُل بين تناغم التداعيات التي تثيرها المؤسسة المسؤولة عن تنفيذ القانون والطريقة التي يُحاول البعض التغيير بها إلى الأفضل، لكن للأسف كانت النهاية أن تم انسحاب الطرف الذي يحاول التغيير من هول الصّدمة ومرارة الواقع، وفي قصة "كان لي وطن" تدور أحداثها في ستِّينات القرن الماضي، حينما حصل الإنقلاب الدَّموي في زنجبار وما تبعه من مذابح وتهجير مُمنهج للعمانيين في شرق أفريقيا، فتتقاطر التراجيديا في هذه القصة وتمتلأ بالآلام والأحزان لما حصل من خلال قصة "زليخة" التي حملتها مراكب الهروب مُخلِّفة ورائها أبنائها وزوجها الذين قُتِلوا بدمٍ باردٍ!، ولتكون صيحتها وهي تودع ذلك الوطن: "تبَّاً لك أيُّها الوطن الذي لمْ نجدْ فيك سوى المكائد! فلا شيء فيك غير الموت الزُؤام!، لن يعود ربيعك بعد اليوم ولن تقم لك قائمة".

وأختم قراءتي لهذه المجموعة بما قاله الكاتب والروائي المغربي مصطفى لغتيري عنها: "قصصٌ تؤمن بالهُوية، وتعضُّ عليها بالنواجذ، وتجد أحياناً في التاريخ داعما قويا لهذا التوجه الذي ارتضاه الكاتب لبعض قصصه من خلال استلهام الأحداث".

الخميس، 9 فبراير 2017

مَا الّذِي يَجرِي فِي حَلَب؟!

يبدوا أن المشهد السوري عموما والحلبي خصوصا يشوبه الكثير من المُغالطات والتَّكهُنات يوازيه إسهابٌ غير مسبوق في التمثيل وصِناعة السيناريوهات الإعلامية المُتضادة، لكن وفي الإجمال يبدوا ومن خلال المُعطيات السابقة لتعامل النظام مع الأحياء المُعارضة له وبالأخص الريفية منها تغلبُ على تصرُّفه سُلطة البطش وانتهاج سياسة الأرض المحروقة، ولكن السؤال الذي يُطرح وبقوة في هذه المعمة: لماذا كل هذا السُخط على حلب وفي هذا التوقيت حيث بدأت سماء الوطن تضيق بأهله فتُرسل لهم "طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ"؟!
للإجابة عن السؤال السابق دعونا نلتفتُ قليلاً إلى المشهد العراقي فربما يمكننا إيجاد عامل الرَّبط بينهما مع فارق في الزَّمان والمكان وآلية التنفيذ، كما يُمكننا استيعاب ماهية ودلالة فرقعة الأصابع السياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في الوحل العربي، علاوة على الوقوف بمدى خواء المشهد السياسي العربي مع تغيرات المرحلة وعدم إدراكها لمصالحها الجيوسياسية إطلاقا، كما أن في ذلك ضربة قاصمة للواقع التعليمي العربي الذي تجلَّت نتائجه من خلال ضياع عقيدة المواطنة والمسؤولية الاجتماعية لمجرد حفنة مصالح حزبية أو قبلية أو نعرات طائفية.
بالرجوع إلى المشهد العراقي وعبر انطلاق حكومة الدبابات وزبانيتها من الحلفاء عبر شمَّاعة  "تحرير الفلوجة" وما آل إليه الواقع من فضائع مؤلمة بقتل الحياة والمدنيَّة بحجة التخلص من دواعش الفكر وكواعش السياسة بأي وسيلة وإن قُلب عَاليِها بسافِلها – وذلك الذي حدث – والانتقال بعد ذلك إلى الموصل وبإيعاز ودعم منقطع النظير من أصدقائهم الأمريكان، وفي ذلك دلالة على هشاشة القوة الأمنية التي تمتلكها الدولة؛ فلا يمكن الثقة والاعتماد على نظام سياسي قيادي يحكم جمهورية عريقة وهو يمدُّ ساطور الذبح بين المواطنين الآمنين بحجة التخلص من شرذمة العصابات المبعثرة، بل كان حريٌّ ومن باب المسؤولية الأخلاقية للدولة تطويع وسائل التكنولوجيا مع حلفائها لتحديد المواقع والنقاط الاستراتيجية وإحكام السيطرة على المدن الرئيسية وتطهير البلاد من هكذا فيروسات إنسانية، لكن يبدوا أن "الأصدقاء" يسترخصون دماء الشعب وثروته الوطنية الدائمة عِوضا عن تكريس ما توصلت إليه التكنولوجيا، لتكون النتيجة جرائم حرب وتصفيات ممنهجة وتدمير مؤسسات الدولة ومعالم الوطن ولسان حال مجلس الامن الدولي " لا أسمع.. لا أرى.. لا أتكلم!
لو سحبنا خيطاً رفيعاً مما يحدث في العراق  وبسياسة "خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ" نجد أن النظام السوري وبقيادة زعيمه الفعلي – بشار الأسد – وإيعاز من روسيا بدأ ينتهج سياسة الأرض المحروقة كما فعلها الأمريكان قبلهم في الفلوجة والموصل، فها نحن نتابع بين حينٍ وآخر أبابيل من القنابل والبراميل المتفجرة والقَّناصة وكل ما أوتيت به آلة الحرب من قتل؛ لتدُّك كل شبرٍ من حلب، فلا صوت يعلوا على صوت "الجيش"، ولا نبضٌ بالحياة إلا نبض العسكر، ولا ساكنٌ يتحرك قيد أنملةٍ إلا وشرارة الموت تلتهمه بشهيَّة مُفعمة، وكأن الروس – اللاعب الرئيس في سوريا – يُنابزون الأمريكان بإسقاط ما فعله الأخير في الضفة السورية ولسانُ حالهم من سيصرخ أولاً يخسرُ رهان الشرق الأوسط؟
بالمقابل نشهدُ انجراراً عربياً مُريعاً إلى كهنوت اللاهدف؛ فسياسيا لا يملكُ العربُ انسجاماً عروبيا موحدا بقوميتهم ونخوتهم لبعضهم البعض، ودينيا بدأ البعض ويكأنه في عكاظ الجاهلية يبيع خمراً من فتاوى المزاج مُتناسيا بَسَاطة دين نبيه الكريم الذي كان يخصفُ نعّلَيه، ويجمعُ الحطب، ويحلبُ الشاة، ويرحمُ الصغير، ويوقر الكبير، ويفترشُ الحصير، وينام وقد نال الجوع منه نيلا بليغاً، فأصبح البعض يثّأر لمذهبه وفكره ويستبيح وطنه وبني جنسه وهو عند الله صغير، واقتصاديا فالعرب لا يملكون عُملة موحَّدة، ولا توحيداً جُمركياً، ولا ترويجاً اقتصادياً فيما بينهم (الاستثمار) بل حتى في عمودهم الفقري للاقتصاد ونعني النفط لم يجرؤا على الوقوف مع مصالحهم حتى استنزف الأصدقاء جيوبهم وبدأوا يشحتوا حينها فقط اتخذوا قرارهم على استحياء بضرورة التقليل من الانتاج لرفع القيمة السوقية للذهب الأسود، واجتماعيا أصبح مواطنوهم يشعرون بالغربة في أوطانهم؛ فهجره  بعضهم ولسان حالهم "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"، وأما تعليميا فنِتاجُ الواقع خيرُ شاهدٍ على مُخرجات النظام التعليمي العربي!
نحن لا نرسمُ صورة سوداوية للواقع العربي بقدر ما أننا نقرأ زوايا المرحلة لاستشراق وتوحيد المستقبل العربي المُمزَّق أصلاً، وما يجري في حلب ورُبما في مناطق قادمة لا يجمع الشمل ولا يحلُّ الإشكالية في سوريا بل يسوؤها أكثر من ذلك؛ والروس ومع توافق سياسة الرئيس الأمريكي الجديد "ترامب" يحاولون استغلال الفراغ السياسي حتى يناير القادم بإفساح المجال لحليفهم "الشخصي" للشروع في مرحلة مدروسة بعناية وحِرَفيَّة، قد يتفق البعض أن بقاء الرئيس السوري الحالي هو "هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا " من جحيم الجاهلية التي يعيشها العراق وليبيا ومصر وبعض دول العالم الثالث، لكن من الضرورة بمكان أن لا يتم إسقاط الأرض المحروقة في الفلوجة والموصل على حلب وما يُحضَّر له في المرحلة المقبلة؛ فقد سأم الموت من أهل سوريا، وحان الوقت لمصالحة وطنية أساسها إخماد صوت الرصاص ووضع الوطن بين أهله وليس بين أحضان الأقزام والغُرباء.
دُمتُم بودٍ

الثلاثاء، 1 نوفمبر 2016

الهيئةُ العامةُ لحمايةِ المُستهلك تَتَحدَثُ فِي دَافُوس

يُشكل الإحتكار أحد الأمراض المُعضلة التي تنسفُ اقتصادات العالم، بل وتدفعه إلى واقعٍ هشٍ لا يحفظ لها الأمن الاقتصادي القومي وربما يخلقُ غضبا اجتماعياً؛ فأيّنما وُجد الإحتكار وُجِدت المحسُوبيات والغشُّ وإِحكامُ قبضة الأسعار على المستهلكين وفق المزاج، علاوة على إندثار ماهية الجوّدة والخدمات المُقدَّمة للمُستهلكين، من هنا فقد اهتمت السلطنة في الآونة الأخيرة بالوقوف عازمة وحاسمة أمام الأُسر المُحتكرة للسوق المحلي طوال عقود خلت، وسعت لتأسيس روح التنافس الشريف بما يخدم الاقتصاد والمستهلك على حد سواء، وأُوكلت تلك المسؤولية الجسِيمة على عاتق مؤسسة ناشئة استطاعت أن تُثبت وجودها وتتحدث للعالم بصمتها الملكي عبر نافذة "الهيئة العامة لحماية المستهلك"، إذ أن الصحف العالمية قد أظهرت تقدم اسم "عُمان" في مواجهة الإحتكار وقدرتها على تأسيس قواعد مكينة للتنافسية بالسوق ضمن التقرير السنوي للتنافسية العالمية للعام 2016م في دافوس بسويسرا، حيث تقدمت السلطنة 29مرتبة عن العام المنصرم، ونعني بالتنافسية وفقا لتعريف المنتدى الاقتصادي العالمي "توفر المؤسسات والسياسات القادرة على تحقيق نمو اقتصادي على المدى الطويل بصورة تفوق نضيراتها لدى المنافسين في السوق العالمي، والذي بدروه يعمل على تحسُّن مستوى المعيشة للمواطنين وتحرير السوق من هيمنة القطب الواحد"؛ ومما دفع العالم للإلتفات إلى سياسة التنافسية وتحرير السوق من هيمنة القطبية المحتكرة هي تلك التغيرات المتسارعة في الاقتصاد العالمي وتأثيراته الاجتماعية والسياسية والمعيشية، علاوة على التطورات التقنية والعلمية، أظف إلى ذلك الطموح لتحقيق نمو اقتصادي قومي وعالمي عالي.
والمتابع لنجاحات هذه المؤسسة الوليدة (الهيئة العامة لحماية المستهلك) يلحظُ أنها تُقدم عطاءات ومراتب عالمية تفخر بها السلطنة، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى لفت الانتباه وتعزيز الثقة بها من قِبل المؤسسات والأفراد من خلالها إعطائه جملة من الصلاحيات وتعزيز اعتماداتها المالية المُستحقة وتمكينها ضبطيا وقضائيا، فأقرب إنجاز نفخر به هي هذه القفزة الطُولى في المنظومة الاقتصادية العالمية لهذا العام وضمن تقرير "التنافسية ومنع الإحتكار" حيث تقدمت السلطنة من المرتبة 90 إلى 61، كما قفزت 13 مرتبة في مجال الحد من الهيمنة والإحتكار؛ ومثل هذه المراتب من الصعوبة بمكان الوصول إليها في ظل اقتصاديات عالمية عملاقة إلا بجودة العمل والعطاء ووجود كوكبة على مستوى رفيع من الفهم والاستيعاب وقراءة واقع السوق وجسِّ سيناريوهاته اللاحقة، جدير بالذكر أن قانون "حماية المستهلك" رقم (76/2014) والذي تطرق في أحد فصوله إلى "حماية المنافسة ومنع الإحتكار" لم يتم صرف أي اعتمادات مالية لتنفيذه حتى اللحظة على الرغم من مرور عامين  منذ اعتماده، وهنا نتساءل عن سبب كل هذا التأخر في ظل حساسية وأهمية هذه المؤسسة الرائدة في تنقية السوق المحلي من دنس الإحتكار وخلق روح التنافسية وتعزيز ثقة المستثمرين؟!.
جدير بالذكر أن الهيئة وفي ظل سعيها لتحقيق تفاصيل قانون التنافسية ومنع الإحتكار استطاعت أن تُقدِّم – حسب قدراتها – الكثير من العطاءات والخيارات والبدائل للمستهلكين مع حفظ حقوق الوكلاء والتُجَّار على حدٍ سواء؛ فعلى سبيل المثال ألزم هذا القانون وكالات السيارات بأن تشمل خدماتها وصيانتها للمركبات من ذات النوع حتى لو تم شراؤها من غير الوكيل مع بقاء الضمان؛ وذلك ساهم في انتعاش سوق التنافس وانخفاض أسعار المركبات، كما استطاعت الهيئة بهذا القانون إرجاع الحديد لسعره الطبيعي العالمي بعدما وصل إلى أسعار خيالية في مرحلة سابقة أثقلت كاهل المقاولين والمواطنين، علاوة على عودة بيع بعض السلع بسعر التكلفة، أظف إلى ذلك متابعة أسعار وجودة قطع الغيار المختلفة والذي أنعش السوق وأدخل العديد من الشباب العماني في التوريد وطرح أسعار تنافسية بجودة عالمية، دون أن ننسى الجهود الجبارة التي تُبذل في سبيل الحدِّ من الغش الغذائي والدوائي والتعليمي والمواد الكمالية.
نبارك للسلطنة من جدير هذا التفوق والتقدم الذي جعلها رقما في سماء العالمية، كما ينبغي على المؤسسات العُليا بالدولة ورجال المال النَّافذين ومُختلف المؤسسات الرسيمة والمُستقلة أن تشُدَّ على يدِ الهيئة في سبيل تطهير الاقتصاد المحلي من مافيا المال الذين لا يُولون اهتمامهم بجودة ما يُقدِّموه ولا يرضون بخلق جو تنافسي شريف قائم على المعايير العالمية ونحن في مرحلة استقطاب رؤوس الاستثمار العالمي بالدقم وصحار ومناطق إقتصادية استراتيجية قادمة، فشكرا للقائمين بالهيئة العامة لحماية المستهلك رئيسا، وخبراء، وموظفين.

الاثنين، 15 أغسطس 2016

"إذا الشَّعبُ يَوماً أَرادَ الحَيـاة"

من لا يستحق الديمقراطية لا تحقُّ له الحياة الكريمة، ومن ينسف إنجازات وطنه لحُفنة من أفكار بالية أو أجندة خارجية رخيصة فليس له مُقام عند الأحرار، يُذكِّرنا التاريخ الحديث أن جُلَّ الانقلابات العسكرية كانت شبه ناجحة لأنها تُبنى على جسِّ نبض الشارع وتكدُّس أخطاء الحاكم بما لا يدع له مقام للرحمة والشفقة ما لو انقلب السحر على الساحر، لكن من الغريب جدا أن يكون هناك زخمٌ كبيرٌ من القادة العسكريين بمختلف الرُّتب والمناصب وممولين بأنهار متدفقة من المال والسلاح استطاعوا بين غمضة عين وانتباهتها أن يسيطروا على مفاصل الدولة وما هي إلا بُرهة من الزمن حتى انقشع كل ذلك الضجيج بمجرد مكالمة فيديو مسجلة يبثّها رئيس الدولة لشعبه!، نعم حصل ذلك في تركيا الديمقراطية حيث الإبداع والحرية والإنتاجية والتطور والنمو المتنامي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي وقبل ذلك ثقافة الديمقراطية الحقيقية بين أفراد المجتمع وتلك ثروة لا تقدر بثمن.
"أردوغان" هذا الرجل الذي شغل العالم بإنجازاته الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعسكرية وشغلهم كذلك في إخفاقاته السياسية الخارجية والداخلية – كما يراه البعض- ، كثير من المسؤولين العرب والغرب راهنوا على زعزعة عرش السلطان الثاني عشر لتركيا الحديثة، وكثير هم "العواذل" الذين اصّطفُّوا خلف شاشات التلفاز مُهللين ومُكبرين وساخرين من هذا الرجل الذي شعروا ذات يوم أنه ثقيل على صدروهم لأنه – حسب تعبيرهم – لا يخدم المصالح العربية (إن وجدت أصلا مصالح عربية)، وأذكر أنني حينما كُنت أناقش أحد الزُّملاء أن تأييد الانقلاب العسكري هو خطأ جسيم باعتبار أنه تقويض للديمقراطية التي سعت الدولة غرسها في المجتمع ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، فقال لي بالحرف الواحد "تريث قليلا من الزمن يا سُلطان فعهد أردوغان قد ولَّى وسيحصد نكاية ما زرعه!"، وما هي إلا دقائق حتى نزل الشارع كالمطر المنهمر ليملأ ميادين تركيا المختلفة وهم يهتفون باسم الحرية والديمقراطية، وأصبحوا كطير أبابيل ترمي الحجارة على رؤوس جبروت العسكر حتى لا تكون تركيا هي مصر أو ليبيا أو العراق العربي.
انقسم المجتمع العربي بمختلف أطيافه بين مؤيد ومعارض لما حصل؛ لاعتبارات متباينة منها ما يتصل بشخص أردوغان أو اتجاهاته الفكرية والدينية وفي ذلك نستشهد قول نائب رئيس شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان: "لو يحدث في الخليج العربي أي عمليات لجماعات الإخوان، فإن أول نصير لجماعة الإخوان سيكون أردوغان، فهو لا يخدم الأمن القومي العربي" – وأتساءل عن ماهية الأمن القومي العربي الذي يعنيه؟-، ومنها اعتبارات سياسية من خلال ممارساته العسكرية في سورية والعراق أو غيرها، لكن الشاهد في الأمر هو هذه الصورة الدراماتيكية العجيبة التي نادرا جدا ما تحصل في العالم حينما يكون الانقلاب مدفوعا ماديا ومعنويا من أقوى دول العالم ويقوده عدد من رجالات العسكر النافذين بهذه المؤسسة والتي تمثل خط الدفاع الأول للدولة وأمام كل ذلك يقف المنقلبون عاجزون أمام تدفقات الشعب الذي يلفظهم، وما هو سر الالتحام الشعبي المباشر بين رسالة القائد بالنزول للشارع وهذه الاستجابة السريعة بتدفق الملايين، فهل يدل ذلك على دكتاتورية الرئيس وتسلطه وظلمه كما زعم بعض العرب الأشاوس؟!، ويُقال من أراد أن يباهي بعظمته أمام الأقزام عليه أن يجعل على صدره وساما كتب عليه:
ليس الفتى من يقول كان أبي**إن الفتى من قال ها أنا ذا
وهنا نطرح سؤالا كبيرا إلحاقا بما جرى: فما الذي جرَّ ملايين الأتراك من معارضين ومؤيدين للاصطفاف خلف هذا الرجل ليتقاطروا دفاعا عنه من كل فجِّ عميق؟، وقبل الإجابة عن هذا السؤال أطرح قصة حول أحد الإعلاميين العرب حينما سأل مواطنة تركية علمانية لماذا نزلتِ للشارع وأنت ضد الرئيس؟، فقالت: "أكره أردوغان لأنه يدافع عن الحجاب والمعتقدات الإسلامية، لكنني نزلت دفاعا عنه لأنه علَّمنا معنى الحرية والديمقراطية المدنية، ولأنني قبل حكمه كنت أزور والدتي فالشهر مرة واحدة بسبب الطريق والآن أزورها مرة فالأسبوع، ولأن أبنائي عشقوا التعليم والمعرفة بسبب تشبثه بتطوير التعليم، ولذلك سأدافع عنه"، وذلك يدفعنا للتساؤل: ما هي الإنجازات التي قدَّمها أردوغان للشعب التركي ليعشقوه حتى الثّمالة ومستعدون للدفاع عنه بكل ما يملكوه؟!.
 بالرجوع إلى تلك الإنجازات نجد أن هذا الرجل استطاع انتشال الاقتصاد التركي من وحل الركود إلى الانتعاش حيث كان أعلى معدل لقيمة الصادرات التركية للعام المنصرم إذ وصلت 152 مليار دولار بمعدل 10 أضعاف ما كانت عليه قبل توليه الحكم، كما تقدَّم ترتيب تركيا العالمي في منظومة الاقتصاد الدولي من المرتبة 111 إلى 17، وكان معدل دخل الفرد السنوي قبل توليه الحكم 3.5 ألف دولار ليرتفع في عهده إلى 10.5 ألف دولار، وفي العام 2011 قامت حكومته بسن قانون الأقليات المسيحية واليهودية لإرجاع الحقوق لها بعدما تم مصادرتها عنوة في العام 1930م، وعمل على إعادة قيمة الاستثمار العقاري من 0.05 إلى 2 مليار دولار، واهتم كثيرا بالتعليم فهو ركيزة الدولة وعماد قوتها واقتصادها فرفع ميزانية وزارة التربية والتعليم من 7.5 إلى 34 مليار ليرة تركية في العام 2011، وأعلن في العام 2008 عن مجانية التعليم وإرجاع المطرودين والمفصولين للتعليم بل جعله إلزاميا بين 8-12 سنة، وعمل على استقلالية الجامعات في كل محافظة ليرتفع معدل الجامعات بعدما كانت في عام 2002 حدود 98 جامعة لتصل في العام 2012 إلى 186 جامعة، ورفع عدد المطارات بالجمهورية من 26 مطارا حتى وصلت بنهاية عام 2015 إلى 50 مطارا، وفي خلال ثمان سنوات وبالتحديد ومنذ العام 2009 وأثناء تقلّده المناصب السياسية من رئاسة الوزراء وحتى رئيس الجمهورية استطاع مد السكك الحديدية على مستوى عالمي عالٍ بامتداد 5500 كم، كما بدأ في العام 2004 ببناء أضخم وأطول نفق مغمور بالمياه على مستوى العالم بطول 9 كم تحت مضيف البسفور، وأمام كل هذه الإنجازات الداخلية والسجل الحافل بالعطاء يتساءل السادة العرب لماذا الشعب التركي يناصر أردوغان!، وهم يقرؤون أبيات أبي القاسم الشابي:  
هــو الكــونُ حـيٌّ يحـبُّ الحيـاة           ويحــتقر المَيْــتَ مهمــا كــبُرْ
فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِ        ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ
الكثير من السادة العرب يعيبون على أردوغان تدخلاته السياسية الخاطئة في الوطن العربي وتحالفاته مع الكيان الصهيوني ويغضون الطرف عن تحالفاتهم مع هذا الأخير اقتصاديا واستخباراتيا، يتناسون أن التجربة التركية كان محكّها صناديق الاقتراع النزيهة وليس خزعبلات الكلام المعسول "بالروح بالدم نفديك يا رئيس" أو أفكار بالية أو التصويت تحت قبضة النار والحديد، هكذا هي ديمقراطية الشعوب المسؤولة تدافع عن حقها في الحفاظ على الإنجازات الوطنية لا التشبث بالكرسي وهو يعلم أن شعبه يلعنه جهارا نهار وليلا ونهارا، فما يكون الحل في ذلك إلا تدمير الوطن بكل إنجازاته على العباد، لتظل جوانحُ المواطن العربي تتساءل كما قالها أبو القاسم الشابي:
تُســائل: أيــن ضبـابُ الصبـاحِ؟ *** وسِــحْرُ المسـاء؟ وضـوء القمـرْ؟
                            وأســرابُ ذاك الفَــراشِ الأنيــق؟ *** ونحــلٌ يغنِّــي وغيــمٌ يمــرْ؟
                            وأيـــن الأشـــعَّةُ والكائنــاتُ؟ *** وأيــن الحيــاةُ التــي أنتظــرْ؟